الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010

وحان وقت الرحيل - " سودة بنت زمعة "


ظلت سودة - رضي الله عنها - تتعايش مع كتاب الله وسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلبها وجوارحها فكانت السعادة ترفرف على سمائها والسكينة تتنزل على قلبها - ولكن دوام الحال من المحال -.

فلقد جاء اليوم الذي دخل فيه الحزن قلبها وسكن فيه, فلقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صاحب القلب الرحيم الذي غمرها برحمته ومودته وحنانه وعلمه وأخلاقه ... فها هي تفقد كل ذلك في لحظة واحدة.

فحزنت لموته حزناً كاد أن يمزق قلبها ولكنها احتسبته عند الله لتنال ثواب الصابرين.

وحسُبها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو راضٍ عنها ... بل وحسبُها انها ستكون زوجته أيضاً في جنة الرحمن التي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وظلت سودة - رضي الله عنها - على العهد الذي تركها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عابدة صامة قائمة لله - جل وعلا - ... وامتدت بها الحياة إلى خلافة عمر - رضي الله عنه - فكان أبو بكر وعمر وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - يعلمون قدرها ومكانتها ويُحسنون إليها غاية الإحسان.

وفي آخر خلافة عمر نامت أمنا سودة على فراش الموت وفاضت روحها الطاهرة إلى بارئها - جل وعلا -.

وإن كانت سيرتها العطرة قد انتهت عند هذا اليوم إلا أن عبير سيرتها ما زال يملأ الدنيا كلها فهي قدوة لنسائنا وبناتنا وأخواتنا عبر العصور والأزمان.

فرضي الله عنها وأرضاها وجعل الفردوس مثواها

يأتيها الإذن من فوق سبع سماوات - " سودة بنت زمعة "


ها هي - رضي الله عنها - تقع في مواقف يسبب لها حرجاً فترجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لتخبره وإذا بالوحي يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من فوق سبع سماوات ليرفع عنها وعن غيرها الحرج بعد هذا اليوم.

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجت سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - ليلاً فرآها عمر فعرفها. فقال : إنك والله يا سودة ما تخفين علينا, فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له وهو في حُجرتي يتعشى, وإن في يده لعَرقاً, فأنزل الله عليه فرُفع عنه وهو يقول : ( قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن ) [ أخرجه البخاري ( 5237 ), ومسلم ( 2170 ) ].

كرمٌ وسخاء - " سودة بنت زمعة "


لقد كانت - رضي الله عنها - كريمة سخية لا تميل إلى حطام الدنيا ومتاعها الزائل بل كلما جاءها مالٌ تؤثر به من حولها رغبة فيما عند الله من نعيمٍ لا يفنى ولا يزول.

عن ابن سيرين : أن عمر بعث إلى سودة بغِرارَةِ دراهم. فقالت : ما هذه ؟, قالوا : دراهم. قالت : في الِغرارة مثل التمر, يا جارية : بلِّغيني القنع, ففرَّقَتها. [ أخرجه ابن سعد ( 8/56 ), وقال الأرناؤوط رجاله ثقات, القنع : هو الطبق ].

فاستبقوا الخيرات - " سودة بنت زمعة "


لقد كانت سودة - رضي الله عنها - تسارع دائماً إلى كل طاعة ... فقد كانت هذه الخصلة المباركة متأصلة في قلوب الصحابة والصحابيات جميعاً ... الكل يتسابق إلى مرضاة الله فهم يعلمون أن الدنيا مزرعة للآخرة وأن من زرع هنا فسوف يحصد هناك.

قال تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [ آل عمران : 133 - 136 ].

وها هي سودة - رضي الله عنها - عندما خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج كانت تتسابق إلى طاعة لله - عز وجل -.

فعن عائشة قالت : نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة الناس وكانت امرأة بطيئة فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس وأقمنا حتى أصبحنا نحن ثم دفعنا بدفعه, فلأن اكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة أحب إلىَّ من مفروحٍ به. [ أخرجه البخاري ( 1681 ), ومسلم ( 1290 ), واحمد ( 6/164 ), حطمة : الزحمة .. أي قبل أن يزدحموا ويحطم بعضهم بعضاً ].

هكذا كانت أمنا عائشة تغبطها على مسارعتها إلى طاعة الله - جل وعلا - بل كانت سودة - رضي الله عنها- حريصة كل الحرص على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته.

فعن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : ( هذه ظُهور الحُصر ). [ الحصر : جمع حصير وهو ما يفرش في البيوت والمراد أن يلزمن بيوتهن ولا يخرجن منها. الحديث أخرجه ابن سعد في الطبقات ( 8/55 ), وأحمد ( 2/446 - 6/324 ), وسنده قوي ].

قال صالح : فكانت سودة تقول : لا أُحُجُّ بعدها.
هكذا كانت تحرص على طاعته - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً.

مودة ورحمة - " سودة بنت زمعة "


قال تعالى : (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الروم : 21 ] .

ولقد كانت المودة والرحمة في بيت الحبيب - صلى الله عليه وسلم - قد بلغت ذروتها فكان البيت قائماً المودة والرحمة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداعب أزواجه أحياناً ويمزح معهن ولكن كان لا يقول إلا حقاً وصدقاً.

وكانت سودة - رضي الله عنها - تمازحه كثيراً وتُضحكه وتُدخل عليه البهجة والسعادة والسرور.

قالت سَودَةُ : يا رسول الله, صليت خلفك البارحة, فركعت بي, حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم. فضحك. وكانت تُضحكه الأحيان بالشئ. [ ابن سعد ( 8/54 ) ].

موقف طريف - " سودة بنت زمعة "




لقد كانت الأُلفة والمحبة بين سودة وعائشة - رضي الله عنهما - سبباً في حدوث بعض المواقف الطريفة ... ففي إحدى الجلسات كان هذا الموقف الطريف.



فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بخزيرة قد طبختها له فقلت لسودة - والنبي بيني وبينها - : كُلي. فأبت . فقلت : لتأكلن أو لأُلطِخَنَّ وجهك, فأبت فوضعتُ يدي في الخزيرة فطليت وجهها, فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع بيده لها وقال لها : الطخي وجهها, فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرَّ عمر فقال : يا عبد الله يا عبد الله فظن أنه سَيَدخُل فقال : قوما فاغسلا وجوهكما. فقالت عائشة : فما زلت أهاب عُمر لهيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [ أخرجه أبو يعلى في مسنده ( 7/449 ), وإسناده حسن ].

عائشة تثني عليها - رضي الله عنها - " سودة بنت زمعة "


هذا الموقف العظيم من الإيثار يندر وجوده في دنيا النساء جعل عائشة - رضي الله عنها - في غاية الدهشة حتى أنها أثنت عليها ثناءً يعجر القلم عن وصفه.

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما رأيت امرأة أحَبَّ إلىَّ أن أكون في مِسلاخِها من سودة بنت زمعة. من امرأة فيها حدَّةٌ. قالت : فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة. قالت : يا رسول الله ! قد جعلت يومي منك لعائشة. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقسِم لعائشة يومين : يومها, ويوم سودة. [ أخرجه مسلم ( 1463 ) ].

قال الإمام النووي : ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك, بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة, وهي الحدة بكسر الحاء, قولها : ( فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ) فيه جواز هبتها نوبتها لضربتها, لأنه حقها, لكن يشترط رضا الزوج بذلك , لأن له حقاً في الواهبة, فلا يفوته إلا برضاه. ولا يجوز أن تأخذ على هذه الهبة عوضاً ويجوز أن تهب للزوج فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء. وقيل : يلزمه توزيعها على الباقيات, ويجعل الواهبة كالمعدومة, والأول أصح. وللواهبة الرجوع متى شاءت فترجع في المستقبل دون الماضي, لأن الهبات يرجع فيما لم يقبض منها دون المقبوض. [ مسلم بشرح النووي ( 10/71 ) ].

ويؤثرون على أنفسهم - " سودة بنت زمعة "


لقد كانت سودة - رضي الله عنها - تجتهد قدر طاقتها لإرضاء الحبيب - صلى الله عليه وسلم - حتى ولو كان ذلك على حساب سعادتها ... وكانت تعلم يقيناً أن أحب نسائه إليه هي عائشة - رضي الله عنها - فأرادت أن تُدخل السعادة على قلب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فوهبت يومها لعائشة تبتغي بذلك مرضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه, وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تبتغي بذلك رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ) [ أخرجه البخاري ( 2593 ), وأبو داود ( 2138 ) ].

وعن عروة, قال : قالت عائشة : يا ابن اختي, كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم, من مكثه عندنا, وكان قَلَّ يوم, إلا وهو يطوف علينا جميعاً, فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها, فيبيت عندها.

ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنَّت وفَرِقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله, يومي لعائشة, فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. قالت : نقول في ذلك أنزل الله تعالى - وفي أشباهها - أراه قال : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً [ النساء : 128 ].

وتوالت البركات - " سودة بنت زمعة "


استقرت سودة في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وبعد ذلك بفترة يسيرة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة - رضي الله عنها - وكانت تحب سودة - رضي الله عنها - حٌباً شديداً وكان لها معها أخبار مشرقة.

ثم توالت الخيرات والبركات وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسائر أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - ليكتمل هذا العقد الفريد.

إنه بيت كريم مبارك أذهب الله عن أهله الرجس وطهره تطهيراً وأفاض عليه البركات والخيرات ليكون البيت وأهله شمساً تضئ للناس جميعاً طريقهم إلى الله - عز وجل -.

الهجرة إلى المدينة المنورة - " سودة بنت زمعة "


لما اشتد إيذاء المشركين بأصحاب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم بالهجرة إلى المدينة حيث نزلوا في رحاب الأنصار الذين قال الله تعالى فيهم : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[ الحشر : 9 ].

ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى المدينة ليقيم للإسلام دولة تكون منارة للكون كله ... ولما استفر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعث زيداً, وبعث معه أبا رافع مولاه, وأعطاهما بعيرين, وخمس مائة درهم. فخرجوا جميعاً. وخرج زيدٌ وأبو رافع بفاطمة, وأم كلثوم, وبسودة بنت زمعة, وبأم أيمن, وأسامة ابنه. [ ابن سعد ( 1/ 237 , 238 ) ].

واستيقظت الذكريات - " سودة بنت زمعة "


في البيت النبوي, كان لسودة - رضي الله عنها - مواقف وضيئة, فقد قدِمت مكة رقية ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجها عثمان بن عفان من هجرتهم من الحبشة, ووقعت عيناها على الدار الغالية, دار أمها الطاهرة خديجة - رضي الله عنها -, تلك الدار التي شهدت رقية فيها أحلى أيام عمرها,... دار الوحي والإيمان, ودار الصدق والوفاء, فانبجست في جوفها مشاعر متباينة كانت مزيجاً من اللهفة والرهبة, والفرح والحزن, والقلق, والهدوء.

وطرقت الباب, فانتشر الخبر أن قدمت رقية وعثمان, وراحت أم كلثوم وفاطمة ومن كان هناك يتسبقون إليها, وتعانقت الأخوات, وسالت العبرات, واستيقظت الذكريات, وأحس جميعهم غياب الأمو الحنون, فانفجرن باكيات.

وجاءت ودة بنت زمعة ثقيلة في خطواتها, وراحت ترحب هي الأخرى برقية وعثمان -رضي الله عنهما -, وفي مثل لمح البصر, هبت ذكريات سودة عن هجرتها إلى الحبشة مع المهاجرين, وأخذت تأل رقية وعثمان, عمَّن تركا خلفهما في الحبشة, فقد كانت سودة تقضي أغلب أوقاتها مع رقية وخولة بنت حكيم وبعض النسوة يتذاكرن أمر الإسلام, وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وبلغ الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن رقية وعثمان - رضي الله عنهما - قد رجعا من الحبشة, فإذا بوجهه الشريف مسفرٌ ضاحكٌ مستبشرٌ, وإذا بالحنان يتدفق من قلبه الشريف, وضم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته رقية - رضي الله عنها - إليه, وغمرها بعطفه, وأخذ عثمان بين ذراعيه, ثم جلسوا يصغون إلى رقية وعثمان وهما يرويان حديث الهجرة والحبشة والمسلمين والنجاشي, وربما شاركت سودة - رضي الله عنها - في الحديث عن الذكريات في أرض الحبشة. [ نساء أهل البيت ص: 89 , 90 ) بتصرف ].

سعادة دائمة - " سودة بنت زمعة "


ظلت سودة - رضي الله عنها - ملازمة للحبيب - صلى الله عليه وسلم - تقتبس من هديه وأخلاقه وعلمه وحلمه حتى أصبحت السعادة لا تفارق قلبها لحظة واحدة وحُق لها أن تسعد بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله إن الواحد منا يتمنى أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة في منامه فكيف بمن يعيش معه ويكلمه في يقظته ؟.

ولم يكن يخطر ببال سودة - رضي الله عنها - أن تصبح في يوم من الأيام أماً للمؤمنين وزوجة لسيد الأولين والآخرين ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

في رحاب بيت النبوة - " سودة بنت زمعة "


لقد كانت سودة - رضي الله عنها - أول من تزوج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - ومكثت عنده وحدها نحواً من ثلاث سنوات حتى تزوج عائشة - رضي الله عنها -.

وكانت تعلم يقيناً أنها لن تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركته خديجة - رضي الله عنها - لكنها كانت تحاول قد طاقتها أن تملأ هذا البيت المبارك راحة وسعادة وسروراً كانت تخفف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يلقاه من اضطهاد المشركين وكانت تحدثه عن ذكرياتها في بلاد الحبشة وتكثر من أخبار ابنته رقية وزوجها عثمان -رضي الله عنهما - لأنها تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يعرف أخبارهما ويطمئن عليهما ويسعد بسيرتهما ... هكذا كانت تبحث عن أي شئ يُدخل السعادة والسرور على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

هكذا أصبحت أماً للمؤمنين وزوجة لسيد الأولين والآخرين - " سودة بنت زمعة "


هكذا أصبحت أماً للمؤمنين 
وزوجة لسيد الأولين والآخرين
صلى الله عليه وسلم

لقد كان أصحاب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - يعرفون قدر خديجة - رضي الله عنها- عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فعندما ماتت كانوا يرجون أن يرزقه الله - عز وجل - بما يخفف عنه آلامه واحزانه ... ولكن لم يكن أي واحد يجرؤ أبداً أن يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الزواج فشاء الحق - جل وعلا - أن تتجرأ واحدة من فُضليات نساء الصحابة ألا وهي خولة بنت حكيم لتعرض هذا الأمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أجل إدخال الفرح والسرور على قلبه المحزون.

وها هي امنا عائشة - رضي الله عنها - تحكي لنا كيف استطاعت خولة - رضي الله عنها - أن تعرض هذا الأمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عن عائشة قال : لما توفيت خديجة, قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص - امرأة عثمان بن مظعون -, وذلك بمكة : يا رسول الله ألا تزوج ؟, قال : مَن ؟, قالت : إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً ؟ قال : فمن البكر ؟ قالت : ابنة احب خلق الله إليك عائشة بنت ابي بكر.قال : فمن الثيب ؟ قالت : سودة بنت زمعة, آمنت بك, واتبعتك على ما أنت عليه. قال : فاذهبي فاذكريهما علىَّ. [ قال الهيثمي في المجمع ( 15285 ) : رواه الطبراني ].

وفي رواية أحمد - بشئ من التصرف - قالت : فذهبتُ إلى سودة وأبيها زمعة - وكان شيخاً كبيراً قد جلس عن المواسم - 
فقلت : ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟ 
فقالت سودة في دهشة : وما ذاك يا خولة ؟ 
قلت : أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك لأخطبك عليه.

غمر سودة سرورٌ عميقٌ, واستشعرت دموع الفرح تبلل وجهها وروحها, وتذكرت ما رأت في نومها منذ فترة, وها هي رؤياها قد جعلها ربها حقاً, وما كانت تطمع في أن تكون زوجاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ان نالت منها السنون, وإنه لشرف عظيم لا يدانيه شرف أن تصبح ام المؤمنين ..., ثم توجهت إلى خولة وقالت لها والبشر يملأ وجهها : وددتُ ذلك ولكن ادخلي على أبي فاذكري له ذلك.

قالت خولة : فدخلت على أبي سودة, وحييتهُ بتحية أهل الجاهلية 
وقلت : أنعم صباحاً. 
فقال : مَن أنت يا هذه ؟. 
فقلتُ : خولة بنت حكيم بن أمية السُّلمي زوج عثمان بن مظعون الجمحيّ. 
قالت خولة : فرَّحب بي والد سودة, وقال ما شاء الله أن يقول, فقد كان على علم بأني خرجت عن آلهة قومي, وىمنت وهاجرت إلى الحبشة, ثم عدت إلى مكة, وسألني عن حاجتي 
وقال : ما شأنك ؟!
فقلت : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر ابنتك سودة أم الأسود.
قال : إن محمدً كفءٌ كريم, ولكن ما تقول صاحبتك سودة ؟
قلت : هي تحب ذلك.
قال : إذن ادعيها إلىَّ.
فذهبتُ ودعوتها 
فقال لسودة : أي بنية, إن خولة ابنة حكيم تزعم أن محمد ابن عبد الله قد أرسل يخطبك, وهو كفءٌ كريم, أتحبين أن أزوجك منه ؟
فقالت سودة في صوت يفصح عن رغبتها : نعم إن أحببت.
فالتفت زمعة إلى خولة وقال لها : قولي لمحمد فليأتنا.
قالت خولة : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد عليها وملكها فزوّجه إياها بعد ان أصدقها أربعنائة درهم. [ قال الهيثمي في المجمع ( 15786 ), رواه احمد ].

وكان لم المؤمنين سودة أخٌ يدعى عبد الله بن زمعة لا يزال على دين قريش, وكان خارج مكة, فلما قدم مكة, وجد أن اخته سودة قد تزوجها محمد - صلى الله عليه وسلم -, فطارت نفسه شعاعاً, وتملكه الغيظ, وركبته حمى الجاهلية, وحثا بالتراب على رأسه أسفاً وحزناً على هذا الزواج, ودخل على أبيه يرغي ويزبد, ويتوّعد ويهدّد.

ولما فتح الله - عز وجل - بصيرته وبصره على محاسن نور الإسلام وآمن بالله, وبمحمد رسولاً ونبياً, قال محدّثاً عن نفسه : إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي, أن تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة. [ قال الهيثمي فى المجمع ( 15340 ), رواه الطبراني ورجاله ثقات ].

موعد مع السعادة - " سودة بنت زمعة "


كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأيام حزيناً لموت خديجة - رضي الله عنها - التي كانت احب الناس إلى قلب الحبيب - صلى الله عليه وسلم -.

كانت خديجة -
 رضي الله عنها - بعد الرسالة, نبض الإسلام, وحاضنة الدعوة, والبلسم الشافي لكل الجراح, والنور المضئ لكل طريق, فما عاد إليها مثقلاً بالهموم والأحزان, إلا وأقبلت عليه تشجعه وتواسيه, ولا تقوم عنه حتى تمسح عن قلبه الكبير الأوصاب, وحتى يفترَّ ثغره الجميل الشريف بالابتسام, ويتألق في عينيه الشريفتين التصميم والعزم على احتمال الآلام كلها في سبيل الله - عز وجل -, حتى يؤدي الأمانة ويبلّغ ما أُنزل إليه من ربه.

لقد أذلَّت الدنيا بإدبارها عنها, وأعزّت الآخرة بإقبالها عليها, ولما توفيت بكاها رسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - وأولادها وصَحبه بدمع هتون, لقد رحلت الطاهرة سيدة نساء قريش, وحاضنة الإسلام, وأم المؤمنين, وحبيبة رسول الله رب العالمين, فكان ذلك العام العاشر من البعثة عاماً مفعماً بالأسى والحزن حتى سُمِّي عام الحزن.

وفي هذه الظروف الصعبة لسير الرسالة المحمدية, من المرأة التي تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركته صدِّيقة المؤمنات الأولى خديجة بنت خويلد - 
رضوان الله عليها - ؟!

أعتقد أن مكان خديجة لا يملؤه إلا خديجة, وأن مكانها ومكانتها في قلب رسول الله -
 صلى الله عليه وسلم - سيبقى لها وحدها, لا تشاركها واحدة من نسائه الأخريات فيما بعد. [ نساء أهل البيت ( ص:80 , 81 )].

ولكن سودة - رضي الله عنها - كانت على موعد مع سعادة النيا والآخرة فلقد شاء الملك - جل وعلا - أن يتزوجها الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ... ولكن كيف كان ذلك ؟.

فتعالوا بنا لنتعايش بقلوبنا مع هذا الحدث المهيب.

فراقٌ مؤلم - " سودة بنت زمعة "

تمر الأيام وما زال الزوجان يتعايشان في كل لحظة مع كتاب الله وسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن جات اللحظة التي نام فيها السكران على فراش الموت وفاضت روحه إلى بارئها - جل وعلا - فمات في مكة فحزنت عليه سودة حزناً شديداً.

وأصبحت سودة - 
رضي الله عنها - وحيدة في هذه الدنيا ولكنها صبرت صبراً جميلاً ورضيت بقضاء الله لأنها تعلم يقيناً أن الله - جل وعلا - أرحم بعباده من رحمة الأم بطفلها الرضيع.

وأن العبد إذا صبر واحتسب فإن الله يعوضه خيراً ولكنها لم يكن يخطر ببالها أبداً أنها ستكون في يوم من الأيام أماً للمؤمنين وزوجة لسيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله -
صلى الله عليه وسلم -.

غاية جليلة - " سودة بنت زمعة "


إن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل آجل, إنه ازاح الغشاوة عن الأعين, فأبصرت الحق الذي حُجبت عنه دهراً ومسح الران عن القلوب, فعرِفت اليقين الذي فُطرت عليه وحرمتها الجاهلية منه, إنه وصل البشر بربهم فربطهم بنسبهم العريق وسببهم الوثيق, وكانوا - قبلاً - حيَارى محسورين, إنه وازن للناس بين الخلود والفناء, فآثروا الدار الآخرة على الدار الزائلة, وخيرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم. فازدروا الأوثان المنحوتة, وتوجهوا للذي فطر السماوات والأرض.

حَسب محمد - 
صلى الله عليه وسلم - أن قدَّم هذا الخير الجزيل, وحَسب أصحابه أن ساقته العناية لهم, فإذا أُذوا فليحتسبوا, وإذا حاربهم عبيد الرجس من الأوثان فليلزموا ما عرفوا, والحرب القائمة بين الكفران والإيمان سينجلي غبارها يوماً ما, ثم تتكشف عن شهداء وعن هلكى, وعن مؤمنين بأمر الله ومشركين مدحورين بإذن الله. [ فقه السيرة للغزالي ( ص:124 ) ].